كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحينما قالوا: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ} أرادوا بهذا القول أن يصنعوا مضارة بين الله ورسوله، فأوضح الحق سبحانه؛ قل لهم يا محمدُ: {كل من عند الله}، وتتجلى دقة الحق سبحانه في أنه جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم وكيلًا في البلاغ عنه، وكان من الممكن أن يسوق الحق القضية بدون قل.
لكنه سبحانه أراد في هذه أن يوسط رسوله صلى الله عليه وسلم في أنه يقول: {قل كل من عند الله}. وكل تعني: كُلًا من الحسنة ومن السيئة. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن قضايا الوجود تتسق مع فطرة الإيمان.
ولقد وقع خلاف طويل بين العلماء في أفعال العباد، وتساءلوا: هل يفعل العبد أي فعل بنفسه، أو أن الله هو الذي يجري على عباده الأفعال؟. فإذا كان العبد هو الذي يفعل الفعل فمن العدالة أن يتلقى الثواب أو العذاب جزاء ما قدم. وإذا كان الله هو الذي يجري كل الأفعال فلماذا يعذبه الله؟. ودخل العلماء في متاهة كبيرة.
وهنا نقول: يجب أن تفهم أن الحق حينما خلق الكون جعل فيه سُننًا، ومن عجيب الأمر أن السُنن تنتظم وتشمل وتضم المؤمن والكافر مما يدل على أنه لا أحد في كون الله أولى بربوبية الله من الآخر، فحتى الذين لا يؤمنون بالله أدخلهم الحق في ربوبيته فأمر الأسباب التي خلقها استجيبي لمن يخدمك وأعطيه المسببات ولا تلتفتي إلى أنه مؤمن أو كافر لأنني أنا الذي خلقته وأوجدته في الكون، وما دمت أنا الذي أوجدته في الكون فلابد أن أتكفل بكل ما يقيم حياته، وأنا سأعرض منهجي، وأقول لعبادي: أنا أحب هذا الفعل وأنا أكره هذا الفعل فمن يؤمن بي فسيكون له وضعٌ آخر، سيكون عبدًا لله.
إذن فالله بالألوهيّة مناط التكليف لمن يؤمن به، والرب بالربوبية مناط الخلق والرزق وقيومية الاقتيات للخلق جميعا، لكل العباد؛ فالسنن والنواميس الكونية تخدم الكل، بدليل أن بعض السنن كانت تحب أن تتمرد لأنها عصبية إيمانية لله. عندما ترى الله يعطي بعضًا من عباده وهم غير مؤمنين به.
فالسنن والنواميس كجنودٍ لله نجدها متأبية على ابن آدم من عدم شكره لله، لكن الحق يوضح للخلق المسخر: هم خلقي وأنا الذي استدعيتهم للوجود. فصنع الحق نواميس للكون تؤدي مهمتها للمؤمن وللكافر جميعا، ثم أنزل سبحانه تكليفًا بوساطة الرسل. ويوضح: أنا أحب كذا وأكره فالذي يحبني يعمل بتكليفي. إذن فمناط الربوبية غير مناط الألوهية.
مناط الربوبية خلق من عَدم وإمداد من عُدم. ومناط الألوهية طاعة، والطاعة تقتضي أمرًا ونهيًا. فكل ما كان من مدلول الأمر والنهي- الذي هو التكليف- فهذه مطلوبات الألوهية.
وكل ما كان من مطلوبات السنن الكونية فهو من مناط الربوبية. والسنن الكونية لا تتخلف أبدًا. فمثلا الذي يريد أن ينجح في مادة من المواد في مدرسة ما.
لابد أن يحصل على خمسين بالمائة من مجموع الدرجات. ومن يريد أن ينجح في مادة أخرى لابد أن يحصل على أربعين بالمائة. وحين تنطبق هذه الشروط على طالب ما. فهل هذا الطالب هو الذي أنجح نفسه أو أن القانون هو الذي أعطاه النجاح؟
إن القانون هو الذي أعطاه النجاح. وصحيح أن القانون لم يقل للطالب وهو يكتب الإجابة: إن مستوى إجابته سيحقق له درجات النجاح، إنّه قد بذل جهدًا في التحصيل الدراسي، وحقق له هذا الجهد النجاح في نطاق ما تم تقديره. فالقانون لا ينجح أحدًا، ولا يتسبب في رسوب أحد، ولكن الطالب الذي يبذل جهدًا ينجح، والطالب الذي لا يبذل جهدًا يرسب. وعلى ذلك فكل شيء في الوجود له قانونه.
إن اليد المخلوقة لله، لو نظرنا إلى حركتها، لا نعرف كيف تزاول مهمتها. وعندما يرفع أحدنا شيئًا من الأرض لا أحد فينا- غالبًا- يعرف العضلات التي تتحرك لتحمل هذا الشيء. فالذي فعل حقيقة هو الله. واليد سواء أفعل الإنسان بها خيرًا؛ أم شرًّا، فالفاعل الحقيقي لكل فعل هو الله. وقام الإنسان فقط بتوجيه الطاقة الصالحة للسلام على واحد، أو لصفع واحد آخر، فاليد صالحة للمهتمين. وعندما يوجه الإنسان يده للصفع فهو يأخذ عقابًا، وعندما يوجهها للسلام يأخذ ثوابًا.
صحيح أن الإنسان ليس له دخل في العمل ذاته ولكن له دخل في توجيه الطاقة الصانعة للعمل؛ فالثواب أو العقوبة ليست للفعل ولكن لتوجيه الطاقة. والسكين- كمثال آخر- يذبح بها الإنسان الدجاجة، أو يطعن بها إنسانًا، وهي لا تعصي توجيه الإنسان إن ذبح الدجاجة؛ ولا تعصاه إن طعن إنسانًا.
والحق قد خلق قانونًا للسكين أن تذبح، والإنسان يقوم بتوجيه الآله التي خلقها الله صالحة لأن تذبح إلى الذبح، سواء أكان الذبح فيما حرم الله، أم فيما أحل، إذن فالله هو الفاعل لكل شيء. وما دام الفعل في نطاق أوامر المكلِّف صاحب السنن فهو الذي يقوم بكل فعل.
وعندما تدقق النظر تجد أن كل فعل من عند الله، وليس للإنسان سوى توجيه الطاقة؛ فالشاب الذي يذاكر دروسه، لم يخلق عقله ولا خلق عينيه اللتين يقرأ بهما، ولكن عقله صالح أن يفكر في الأمر الرديء، وعيناه صالحتان لأن ينظر بهما في مجلة هزلية أو ينظر بهما في كتاب.
إذن فهو ساعة يفعل هذا أو يفعل ذلك هل يفعل ذلك من وراء رَبِّه؟. لا، إنه لم يفعل شيئًا على الإطلاق سوى توجيه الطاقة التي خلقها الله صالحة لأن تفعل هذا وتفعل ذاك.
إذن فثوابك وعقابك يكونان على توجيه الطاقة الفاعلة إلى الأمر الصالح أو الأمر السيء. فعندما يقول ربنا: {كل من عند الله} نقول: هذا حق وصدق؛ فالذي أهمل في زراعة أرضه ولم يسمدها أو لم يروها وأصابه جدب فهذا نتيجة عدم توجيه الطاقة المخلوقة لله في مجالها الصحيح.
لكن عندما يمتنع المطر فلا عمل في ذلك للإنسان. فالنواميس الكونية صنعها الله. ومن يأخذ بأسبابها تعطه وإن أصابت الإنسان سيئة في إطار هذه فهي من عند الإنسان؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب.
وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضًا على الجماعة؛ فالذي يلعب الميسر ويأتي له الخراب والدمار، هذا من نفسه؛ لأنه تلقى الأوامر من الحق بألا يمارس تلك الألعاب. وأي أمة اشتكت من ضيق الأرض الزراعية وضيق الرزق فهذا بسبب الأمة نفسها؛ لأن القائمين بالأمر كان عليهم العمل لتنمية الموارد بالنسبة لنمو السكان.
والذي يتعبنا ويرهقنا أننا نتحمل غفلة أجيال، فتجمعت المشكلات فوق رءوس جيلٍ واحد. ولو أن كل جيل سبق قام بمسئوليته لكانت مهمة الأجيال الحالية أقل تعبًا. فما دامت لدنيا أرض صالحة لأن تنبت كان علينا أن نعدها ونستغل المياه الجوفية في زراعتها. فالمسألة إذن كسل من أجيال سابقة. وما دام هناك مخزون في المياه الجوفية كان يجب أن نعمل العقل لنستنبط أسرار الله في الكون. فليس من الضروري أن ينزل المطر، لأن الحق يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21].
وجعل الله للمياه مسارب في الأرض حتى تستطيع البلاد ذات الحرارة الشديدة الوصول إلى المياه الجوفية ولا تتعرض المياه المنتشرة في مسطحات كبيرة للتبخر. لقد أخفى الله جزءًا من المياه في الأرض لصالح الإنسان. وفي البلاد الحارة نجد الملح واضحًا على سطح التربة دليل على أن الحق وضع قانون تقطير المياه العذبة لتكون صالحة للشرب والزراعة.
وكلنا يعرف قانون التبخر، فعندما نأتي بكوب من المياه وننشره على مسطح حجرة مساحتها خمسة وعشرون مترًا مربعًا فالمياه تتبخر بسرعة. لكن لو تركنا كمية المياه نفسها في كوب الزجاج فلن تنقص إلا قدرًا ضئيلًا للغاية. إذا فكلما زاد المسطح كان البخر أسرع. وأراد الحق أن تكون ثلاثة أرباع اليابسة من المياه؛ لأن الماء أصل كل شيء حي. وجعل بعضها من الماء المالح حتى لا تأسن ولا تتغير، وتوجد هذه المياه في مساحة متسعة حتى تتبخر وتنزل مطرًا، فما يجري في الوديان يجري، والمتبقي من المياه يصنع له الحق مسارب في الأرض لأنه ماء عذب، حتى يستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له من الله فيستخرج المياه من الأرض، فالحق خلق لنا كل ما يمكن أن يحقق لنا استخراج قوت الحياة.
وسبحانه القائل: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9- 10].
فإياكم أن تقولوا: إن السكان سيزيدون عن القوت الذي في الأرض، ولكن اعترفوا بخمول القدرات الإبداعية للاستنباط. فبعد أن يقول الله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} فلا قول يصدَّق من بعد قول الله. وهب أن موظفًا- ولله المثل الأعلى- جاء في أول الشهر بتموين الشهر كله ووضعه في مخزن البيت، وجاء ظهر اليوم ولم يجد زوجته قد أَعدَّت الغداء، فماذا يحدث؟ إنه يغضب. ولقد وضع ربنا أقواتنا مخزونة في الأرض، ونحن لا نعمل بالقدر الكافي على استنباط الخير منها. وسبحانه يوضح لنا: إن الإنسان إن لم يستفد بالنواميس التي خلقها الله له، ولم ينفذ التكاليف أمرًا ونهيًا فلسوف يتعب الإنسان نفسه؛ فتكون معيشته ضنكًا. فسبحانه يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
هذه القرية كانت تتمتع بالأمن والاطمئنان لكنها كفرت بأنعم الله. والكفر في المعنى العام هو: ألا تشكر النعمة لله. وعندما نمعن النظر بدقة لنرى قانون ربط السبب بالمسببات، وربط السنن الكونية بالكون والمكون والمكون له نجد أشياء عجيبة، فهذه القرية كانت آمنة مطمئنة والرزق يأتيها رغدًا من كل مكان. إذن فالقرية هي مكان السكن، وليس مكان السكن فقط هو الذي فيه الرزق بل يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكأن كل مكين في بقعة؛ له بقع خالية في مكين آخر تخدمه. وتلك القرية كفرت بأنعم الله.
والكفر في معناه الواضح هو الستر، والقرية التي كفرت بأنعم الله هي التي سترت نعمة الله، فنعمة الله موجودة ولكن البشر الذين في تلك القرية هم الذين ستروا هذ النعمة بالكسل وعدم الاستنباط للنعمة وترك استخراجها من الأرض.
أو أن سكان هذه القرية استخرجوا نعمة الله واستنبطوها وستروها عن الخلق، وفساد الكون إنما يأتي من هذين الأمرين:
أي أن هناك أممًا متخلفة، كسل سكانها عن توجيه طاقاتهم لاستنباط النعم من الأرض. أو أن هناك أممًا أخرى تملك الثراء والخير وترميه في البحر حتى لا يذهب إلى الأمم المتخلفة. والخراب الذي نلمسه في علاقات العالم ببعضه البعض يقول لنا: إن العالم هو القرية التي ضرب الله بها المثل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
ولنر دقة الأداء القرآني، في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ}، ونعلم أن الذي يُذاق هو الطعم. والطعم يكون باللسان وحده: أما اللباس فيعم كل الجسم، والحق هنا يعطي الإذاقة ولا يكون الذائق هو الفم فقط بل كل الجسم، فالفم إنما يتناول لصالح بقية الجسم، وعندما لا تصل مادة الحياة إلى بقية الجسم فكل الجسم يذوق الجوع أيضًا.
والكون المخلوق لله مصنوع على نظام دقيق من أجل أن تسير السنن الكونية في مجالاتها التي حددها الله، وعندما تنتظم هذه السنن في حركتها فهي تعطي النتائج للإنسان ولو بعد حين، حتى إن بعض المفسرين والمتكلمين بعمق يقولون: إن الأمراض الوراثية التي تنتقل من أجيال سابقة إلى أجيال لاحقة كان السبب فيها تقصير آباء واجتراءهم على أشياء مخالفة لمنهج السماء، فإذا شرع الله سنة كونية للفرد ثم خالفها تصيبه نتيجتها السيئة من بعد ذلك، وكذلك الأمة والجماعة.
لكن المسائل التي يقف فيها العقل فقط هي المصائب التي تصيب الناس بغير عملهم. وكان على الفلسفة أن تبحث هذا المجال، أما الدين فهو يقول لنا أسباب تلك المسائل؛ فالشيء الذي له مقدمات من أسباب تكاسل الإنسان عنها، ثم أصابته كارثة فهذا من فعل الإنسان في نفسه. أما الأشياء التي تأتي قدرية فهذا أمر مختلف. فإذا كان ديننا قد وضع للإنسان أسبابًا كونية وحكمة الإنسان الإيمانية قالت له: افعل ذلك حتى يحدث كذا، ولا تفعل ذلك حتى لا يحدث كذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لم يعطه كل ما يستطيع به استيعاب كل حكمة المكوِّن في الكون، ليلفت سبحانه الإنسان دائما على أن طلاقة القدرة مازالت موجودة، فيحدث شيء من الأشياء يتساءل فيه الإنسان: ما سبب ذلك؟ ولماذا؟ ومثال ذلك الزلزال أو البركان أو السيل الجارف والريح العاصف، كل هذه الأحداث لا دخل للإنسان فيها، وهي أحداث تقول للإنسان: لو أن المسائل في الكون فيها رتابة أسباب لما ارتبطنا بقوة غيبية خفية نضرع إليها دائمًا لنَسْلَم.